د. منى النموري تكتب: دخل الربيع يضحك.. ما بين إليوت وجاهين

منذ 3 ساعات
د. منى النموري تكتب: دخل الربيع يضحك.. ما بين إليوت وجاهين

وقالت الكاتبة والمخرجة نهى عادل، خلال حديثها بدار الأوبرا في العرض الأول لفيلم “الربيع يدخل يضحك” الحائز على أربع جوائز في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2024، عن الفيلم، وهو أول فيلم روائي طويل لها: “الفيلم هو بسيطة وبالتالي لا داعي للحديث عنها. البسيط أسهل في الرؤية! كنت أعلم من أعماق قلبي أنه ليس فيلماً سهلاً، رغم بساطته وواقعية مشاهده وحتى واقعية ممثليه. الغالبية العظمى منهم ليسوا محترفين، لكن تم اختيار كل واحد منهم بعناية فائقة، عبر سنوات عديدة من الكتابة وإعادة الكتابة والاختبار والتدريب ومن ثم تصوير ما أراد المخرج أن يكون واقعياً وأصيلاً. حتى الوجوه التي ظهرت في الخلفية ولم تنطق بكلمة واحدة، كان حضورها مهماً وظهورها على الشاشة كان تعبيراً أصيلاً.

وبما أنني ناقد أدبي، فأنا رغما عني مهتم بجماليات الكتابة وليس بجماليات السينما، وبما أنني شاركت في إحدى قصص الفيلم الأربع، فربما أكون أقرب قليلا إلى المحتوى، حتى لو كان لدي الفيلم النهائي، مثل بقية الجمهور، فقد شاهدوا الفيلم فقط في يوم العرض الأول. أربع قصص يغلفها الربيع، بغلاف خارجي يبدو مشرقًا حتى تنظر إلى القصص، ويجبرك المخرج الذكي على أن تصبح جزءًا من نسيجها وتتخذ مواقع داخلية مع تصاعد الأحداث، ثم تتوقف عن المشاهدة وتعود إلى المنزل برفقة كل منهم. تنام وتستيقظ وأنت لا تزال تفكر: ماذا لو كنت مكانها؟

نهى عادل، خريجة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، درست على يد أساتذة كبار مثل فاطمة موسى ومحمد عناني، مشايخنا الأجلاء ورموز الثقافة المصرية في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. درست الأدب الغربي لتعزز حبها الطبيعي للأدب العربي وملأها شغفا بالسينما العربية والغربية. السينما كتعبير فني حديث تشمل معظم الفنون الإبداعية من كلمات وصور وموسيقى، وأهم ما في نظري هو المونتاج أو التوزيع لـ«الرواية المرئية» التي أبدعتها نهى كاتبة ومخرجة. تريد أن تنقل أو تنفجر للمشاهد.

في فيلمها الفائز “دخول الربيع”، تستخدم نهى عادل السخرية اللاذعة. وخلافاً للاعتقاد السائد بأن الربيع يحيي الأرض الميتة ويعدنا بحياة جديدة، نجد أنه يقدم لنا أمثلة لأشخاص يعيشون أمواتاً في حياة المدينة القاسية. إنهم على جميع المستويات الاجتماعية يعانون من أشياء مادية لا تجلب لهم سوى البؤس. مليئة بالتباهي بلا شيء، بين عمليات التجميل التي تبرز وتبسط ما تبسطه، والمدارس الأجنبية للأطفال، وخواتم الماس أو العلاقات مع “أشخاص مهمين” وأسلوب حفلات الزفاف مع أنماط وأنماط ملابس الوصيفات و أشياء أخرى تتقاتل عليها الشخصيات في الفيلم.

أصوات الشخصيات في القصص تنبهنا إلى مكانتهم الزائفة في الحياة بشكل يذكّرني بقصيدة للشاعر الأمريكي ت. إليوت “الأرض اليباب”، والذي يبدأه بالعبارة الشهيرة “أبريل هو الشهر الأكثر قسوة”. لماذا هو قاس؟ لأنها تعذب الموتى بدفعة مؤقتة من الحياة، لكنها تؤكد موتهم الذي لا رجعة فيه! أنواع الأشخاص الذين نراهم في شخصيات الفيلم، بعيدًا عن نعمة الله، عصبيون، متحفظون، مليئون بالتحيز والرغبة في مهاجمة بعضهم البعض، بغض النظر عن مستوى القرب. لقد أعمتها الرغبة في السيطرة على الآخرين والسيطرة عليهم، حتى أولئك الأقرب إليها. الأكثر انتشارا في جميع القصص هو “العصابية”، تماما مثل الأصوات التي نسمعها من الشخصيات في “الأرض اليباب” لإليوت، والتي حيرت القراء منذ مائة عام والتي لا تزال بحاجة إلى تفسير وتفسيرات وحواشي.

ومن أجل المزج بين رموز ثقافية مختلفة تعكس تنوع ثقافتها، تختار نهى عادل رمزاً شعرياً عربياً قديماً هو صلاح جاهين، على أمل أن يوجه تفكير المشاهد خلال العرض. في القصة الأولى تقدم الجارة المسنة لجارتها باقة من الزهور، وتظهر الجارة حبها لرباعي الجاهين وهي ترديد الأبيات التالية: جاء الربيع يضحك وأنا حزين ثم تستعرض نهى عادل القصص مرة أخرى وهي تنتقل من صوت إلى آخر. نسمع في البداية ضحكاتهم، ثم نراهم يمسكون برقاب بعضهم البعض، لا يرون الدم، بل نرى القلوب تتحطم ثم تنغلق على ما بداخلها. ولننهي قصة “الفرحة” بباقة ورد أخرى في يد العروس التي ستتزوج رغماً عن قلبها. تأتيها باقة ورد ذابلة وكأنها تقودها إلى القبر وليس إلى حياة جديدة تستطيع بها بناء منزل.

في فيلمها «جاء الربيع ضاحكاً»، ترينا نهى عادل أمواتاً يمشون، ويصبحون أكثر موتاً مع حلول الربيع، مما يؤكد إلى الأبد خسارتهم. جميع أبطال «الربيع يأتي ضاحكاً» يعملون في مهن غير التمثيل، باستثناء كارول العقاد التي تدرس المسرح والرقص التعبيري. وكان لكل منهم خلفية ثقافية وحياتية متنوعة. لقد قامت نهى بتدريبهم جميعاً بصبر وعناية. وناقشت الدور معهم لفترة طويلة وجعلت كل منهم ينظر إلى دوره وحياته من منظور مختلف. وقد دفعهم ذلك إلى التعمق في حياة الشخصيات التي “لعبوها” على الشاشة، في مسعى يشبه التنقيب الأثري.

وإلى جانب نهى كانت المخرجة والمنتجة الإبداعية كوثر يونس، التي آمنت برؤية نهى الفنية ودعمتها حتى تحققت وخرجت إلى النور. فكم من رؤى عظيمة فشلت لأنها لم تلق الدعم الكامل.

وأعود إلى إشارتي إلى المشاركة في فيلم «الربيع جاء ضاحكاً». الحقيقة أنه لم يكن العمل الأول مع نهى عادل، لكنها هي التي اقترحت علي التمثيل عام 2017، وهي التي قادتني كمتطوعة من غرفة مكتبي ومحاضراتي إلى كاميرا الشارع، حيث تدور الأحداث في أول فيلم قصير لها من تأليف وإخراج: “مرشدير”. فيلم حصل على العديد من الجوائز المحلية والعالمية، بالإضافة إلى قيمته الجمالية على مستوى الكتابة أو الإخراج، وهو ما أكدته جوائز مهرجان الأقصر السينمائي 2018 وميلانو 2018 وغيرها.

مثل القصص الأربع، تقدم لنا نهى عادل في “مرشادير” لحظة يتصاعد فيها العنف والتوتر في الشارع، لتدرك أن توتر الشخصيات ليس المقصود منه اللحظة الحالية، بل يمثل تراكمًا وهروبًا قديمًا قبل الأزمات الشخصية. ويدعونا للتفكير: ماذا لو كنا مكانهم؟ وهنا بالضبط تكمن الخبرة الخاصة لكل من يشارك في الدراما، وهو المبدأ الذي يقوم عليه مبدأ “الدراما السايكودراما”.

عند التمثيل، لديك الفرصة الكاملة للوصول إلى مكان الشخصية التي تلعبها. تعيش معه، تجسده، وتثير تساؤلات حول خلفيته، ودوافعه، والجوانب الخفية من حياته التي لا تظهر على الشاشة. لا تستطيع العيون رؤيته، ولا يمكن للكلمات أن تنقله. أليست هذه حياة كل واحد منا؟ أليس ما يظهره كل واحد منا للناس هو مجرد جبل الثلج؟ أليس هذا بالضبط ما ينقله لنا إليوت في قصيدته “الأرض اليباب”؟ وعلى القارئ أن يفك؟ أليس هذا هو الملخص الرائع الذي يقدمه لنا جاهين في رباعياته؟ ويترك لنا الهوامش لنملأها بقصصنا؟

هذا هو الفن الحقيقي أيها السادة! بين تي إس إليوت وصلاح جاهين تقف نهى عادل في أولى تجاربها السينمائية وتعلن عن كتابة جريئة وشفافة، كتابة بالكلمات ووجهات النظر والتفاصيل والموسيقى. تستخدم الكتابة “الهجينة” التنوع الثقافي والمراقبة الدقيقة لحياة الفنان الأصيل.


شارك